الأسابيع المقبلة شديدة الخطورة.. ضغوط واغتيالات!


جوني منير -

التهبت المنطقة فجأة من اليمن إلى غزة، وارتفع مستوى الحماوة في لبنان. وبخلاف أيام إدارة جو بايدن، فإنّ إدارة دونالد ترامب أعلنت بدء حملة جوية قاسية على الحوثيين بهدف تدمير إمكاناتهم الهجومية، وجاهرت بدعمها المباشر لتجديد إسرائيل حربها على غزة. ولكي لا نخطئ في حساباتنا، فإنّ بدء «حملة الضغوط القصوى» تتزامن مع ظروف دولية تعتقد الإدارة الأميركية أنّها مؤاتية في حملتها التي تستهدف إيران.

فالعلاقات الأميركية ـ الروسية دخلت فعلياً وعملياً في مرحلة جديدة. والاتصال الطويل بين الرئيسين الأميركي والروسي، والذي دام نحو ساعتين ونصف ساعة، يوحي بأنّه لم يقتصر على الوضع الأوكراني فقط، بل إنّه طاول الوضع الأوروبي والمطالب العسكرية والأمنية والاقتصادية الروسية، إضافة إلى وضع إيران والشرق الأوسط. وبعد الاتصال ظهرت إشارات إيجابية من واشنطن وموسكو على حدّ سواء. وتزامن ذلك مع تسريبات أميركية حول نية واشنطن التنازل عن رئاسة حلف «الناتو». وهو ما يدفع إلى الاستنتاج بوجود «صفقة» كبرى بدأت بوادرها بالظهور. وتكفي الإشارة إلى تفاؤل ترامب وبوتين باحتمال حصول تعاون اقتصادي بين بلديهما في حال تحقق السلام. وتُعتبر هذه النقطة مكسباً ثميناً للاقتصاد الروسي الذي رزح منذ بدء هجوم الجيش الروسي على أوكرانيا تحت وطأة العقوبات الأميركية والأوروبية، إضافة إلى افتقاده للأسواق الأوروبية أمام صادراته من الغاز، وهو ما حرمه من مردود مالي مهمّ.

ويؤشر ذلك إلى استعجال ترامب في ترتيب الساحة الدولية للتفرّغ لتطبيق خطة احتواء التمدّد الصيني. ويتزامن ذلك مع مواصلة الجيش الأميركي تدريباته العسكرية الواسعة النطاق في المحيط الهادئ، وهي المنطقة الأكثر حساسية وأهمية لمواجهة النفوذ الصيني. وتشمل مناورات «درع الحرّية 25» إشراك طائرات مقاتلة من نوع «الشبح»، أي تلك التي لا تستطيع الرادارات رصدها، إضافة إلى طائرات مقاتلة من الجيل الرابع.

ولكن ترامب يدرك جيداً أنّ إغلاق، أو على الأقل السيطرة والتحكّم بلهيب الحرب الأوكرانية، لا يكفي للتفرّغ للمواجهة مع الصين. فهنالك لهيب الشرق الأوسط، والمقصود هنا تحديداً الواقع الإيراني والذي يشكّل ثغرة كبيرة في الخطة الأميركية لمحاصرة التمدّد الصيني. فعدا الحاجة إلى إغلاق كل ثغرات الشرق الأوسط لمنع نفاذ الصين من خلالها، هنالك ما يتعلق بالواردات النفطية الإيرانية إلى الأسواق الصينية، والتي تحتاجها بشدّة القطاعات الصناعية الصينية.

وإذا كان التواصل المباشر بين البيت الأبيض والكرملين يوحي بمقايضات وتفاهمات ستطاول الواقع الإيراني بطريقة أو بأخرى وسيدفع بها لخسارة سند دولي مهمّ، فثمة مؤشرات أخرى على المستوى الإقليمي قد لا تكون في مصلحة طهران. فالإعلان في تركيا عن اعتقال رئيس بلدية اسطنبول أكرم إمام أوغلو إنما يعطي دلالات أبعد من الساحة التركية. ذلك أنّ نجاح الرئيس التركي أردوغان في إبعاد منافسه الرئاسي الأقوى ما كان ليحصل بهذا الهدوء لولا اطمئنانه إلى أنّه لن يواجه حملة دولية ضدّه. وهو ما يعني بشكل من الأشكال وجود تفاهمات وأدوار تمّ إيكالها إلى تركيا ستمنع حصول «عاصفة» إنتقادات ضدّه. ولا حاجة إلى جهد كبير للإشارة إلى الدور الجديد الذي باشرته تركيا في سوريا والمنطقة، والذي يرتكز على معادلة جديدة لا تقوم فقط على مبدأ التوازن مع النفوذ الإيراني بل أيضاً على مبدأ حائط الصدّ له.

وثمة مؤشر إضافي له دلالاته البعيدة. فمطلع الأسبوع المقبل ستوقّع إسرائيل مع أذربيجان إتفاقية تسمح بالتنقيب عن الغاز الطبيعي في الساحل الإسرائيلي. والعلاقة التي نجحت إسرائيل في ترسيخها مع أذربيجان أو الجار المزعج لإيران، أنتجت بناء مقر إستخباراتي إسرائيلي عند منطقة قريبة من الحدود مع إيران، وحيث جرى تجهيزها بأحدث معدات الرصد والتجسس. وقيل إنّ معظم العمليات الأمنية التي نفّذتها إسرائيل على الأراضي الإيرانية ساهمت فيها هذه القاعدة الإسرائيلية. مع الإشارة إلى الحساسية المطلقة للعلاقة بين إيران وأذربيجان بسبب وجود ما نسبته 20% من التركيبة السكانية الإيرانية من أصول آذرية. 

كل تلك المؤشرات قد تكون شجعت إدارة ترامب على بدء مرحلة الضغوط القصوى لترويض إيران ودفعها للموافقة على التفاوض مع واشنطن وفق الشروط التي باتت معروفة: الملف النووي، وتحديد مدى الصواريخ البالستية والفرط صوتية، والانسحاب من الساحات المعروفة بساحات نفوذ إيران في المنطقة.

ووفق أوساط ديبلوماسية عربية، فإنّ الرسالة الأميركية التي حملها الموفد الإماراتي إلى طهران مفادها أنّه، إما الموافقة على المطالب الأميركية عن طريق المفاوضات أو عن طريق القوة.

ولذلك لا بدّ من الإقرار بوجود رابط واضح بين التصعيد ضدّ الحوثيين وبين استعادة نتنياهو لمسار الحرب المدمّرة على غزة، وأيضاً لتصاعد التوتر في لبنان جنوباً وبقاعاً. والرابط هنا ليس بالتوقيت فقط بل أيضاً بالأهداف. صحيح أنّ المطلوب في اليمن إزالة قدرة الحوثيين على تهديد الممرات البحرية، لكن الهدف الأساس هو النفوذ الإقليمي الإيراني. وصحيح أنّ نتنياهو يريد استئناف الحرب على غزة لتحقيق مشروع اليمين الإسرائيلي والقاضي بتهحير الفلسطينيين من أرضهم، لكن المطلوب أيضاً إنهاء النفوذ الإيراني في الساحة الفلسطينية. ولا شك في أنّ لنتنياهو أسبابه الداخلية أيضاً، لذلك استبق استئناف حربه بإعلانه إقالة رئيس جهاز «الشاباك» المناهض له، في سابقة في الحياة السياسية الإسرائيلية، وهو ألغى أيضاً شهادته في محاكمة الفساد المتهم به، واستعاد في الوقت نفسه مشاركة اليمين المتطرف في حكومته، ما جعلها أكثر تحصيناً. هو استغل اللحظة التي يريدها ترامب لتحقيق نقاط عدة. لكن العنوان الأميركي العريض يبقى في تقليم أظافر إيران الإقليمية. لذلك هنالك من يتوقع أن تتدرج الحملة العسكرية الإسرائيلية صعوداً في موازاة تدرج الحملة الجوية الأميركية ضدّ الحوثيين. ولا يستبعد المراقبون أن تتطور الحرب الإسرائيلية لتصبح هجوماً برياً، خصوصاً انّ إسرائيل طلبت إخلاء المناطق السكنية المجاورة لحدود قطاع غزة معلنة إياها «ساحة حرب»، مثل رفح وخان يونس ومدينة غزة وغيرها.

أما في لبنان، فعدا «حرب الإغتيالات» التي تستمر فيها طائرات «الدرون» الإسرائيلية وسط التمنع عن الإنسحاب من الجنوب، هنالك جبهة أخرى اشتعلت عند الحدود اللبنانية ـ السورية في الهرمل. وقد تكون أعمال التهريب هي التي أشعلت فتيل المواجهات الأخيرة، لكن استثمارها جاء كبيراً وبخلفيات أبعد، وسط همسات حول وجود تشجيع خارجي لها. وقيل إنّ الهدف هو إقفال مسارب التهريب الموجودة في المنطقة، والتي تمّ بناؤها خلال المراحل السابقة ولا تزال تعمل ولو بوتيرة أضعف، لتأمين الترابط بين «حزب الله» وإيران بأشكال صعبة. من هنا يمكن تفسير الردّ الإيراني الرسمي تعليقاً على الإشتباكات التي دارت، خصوصاً أنّ الحل المنطقي المطروح هو أن يمسك الجيش اللبناني بالحدود والمسارب، وأن يضبط الوضع ويمنع أي احتكاكات أو اشتباكات يمكن أن تتطور وتنزلق في اتجاهات دراماتيكية، كون اللعبة هنا لها علاقة بالنزاع الكبير في المنطقة.

ومكمن القلق لا يقف عند حدود ما أعلنه ترامب من أنّ الحملة على الحوثيين وبالتالي «التصعيد الأقصى» سيستمر لأسابيع عدة وغير محددة. فالقلق هو من احتمال تطور الضغوط لتأخذ أشكالاً أمنية في حال لم يؤدِ الواقع العسكري المطلوب منه. وتهمس الأوساط الديبلوماسية بوجود اقتناع داخل الإدارة الأميركية بأنّ الحرب الأمنية التي اعتمدتها إسرائيل، والمقصود هنا حرب الإغتيالات، قد أدّت إلى النتائج المطلوبة. فمن جهة اغتيال قادة «حزب الله» في لبنان، ومن جهة أخرى حملة الاغتيالات والتصفيات الإيرانية في سوريا، وكذلك تلك التي طاولت قادة وزعماء حركة «حماس» والتي جاءت ذروتها مع اغتيال زعيم حركة «حماس» اسماعيل هنية خلال وجوده في طهران. ويعتبر أصحاب هذا التوجّه أنّ استهداف جيل القادة مجدداً أنّ في لبنان أو في إيران أو اليمن أو غزة قد يؤدي إلى قلب المعادلة نهائياً في المنطقة. وهنا مكمن الخطورة، خصوصاً أنّ هؤلاء يعتبرون أنّ نجاح ترامب في اغتيال الجنرال الإيراني وباني استراتيجية محور المقاومة قاسم سليماني أدّى إلى توجيه ضربة قوية لهذا المشروع يومها. أضف إلى ذلك، إنّ الظروف الدولية وحتى الإقليمية تسمح بالذهاب في هذا الإتجاه.

واستطراداً، فإنّ الأسابيع المقبلة تبدو شديدة الخطورة، خصوصاً مع وجود اقتناع بأنّ الاغتيالات الكبيرة قادرة على تحقيق واقع جديد من دون الدخول في أتون الفوضى التي لا تجيد واشنطن إدارتها عادة. إلّا إذا إنقلب السحر على الساحر، ونجح طرف ما في اغتيال الرئيس السوري أحمد الشرع وسط انقسامات عميقة لا تزال تعيشها الساحة السورية ولم تستطع الإدارة السورية ضبطها وتنظيمها. عندها تصبح الحسابات مختلفة من دون شك.

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى